الأربعاء، 13 يوليو 2011

فقه الدعوة - مجالات التوازن

فـقه الدعوة (16) مجالات التـوازن


فـقه الدعوة (16) مجالات التـوازن

تحدثنا في الحلقة السابقة عن التوازن في الدعوة وحقيقة التوازن والموازنة في العمل الدعوي وحذرنا من الغلو وأنواعه وخطورته على الدعاة وبينا أسباب الغلو والتطرف، ونستكمل الحديث عن التوازن في الدعوة.

مجالات التوازن:

1 - عند غلبة النوازع:

النوازع هي الأمور التي يشتاقها الداعية ويحنّ إليها، وتحصل المجاذبة بينه وبين نفسه لتحقيقها وتحصيلها، ولا يخفى على اللبيب أن كل إنسان ينزع إلى ما تدفعه همته إليه. (التنازع والتوازن في حياة المسلم ص15).

يقول ابن الجوزي: «نظرت إلى علو همتي فرأيتها عجبا، وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه؛ لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها وأريد استقصاء كل فرد، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه... فلا أرى الرضا بنقصان العلوم إلا حادثا عن نقص الهمة.

ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم فأتوق إلى ورع بشر وزهادة معروف، وهذا مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيد.

ثم إني أروم الغنى عن الخلق وأستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم عن الكسب وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية.

ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد كما أتوق إلى تحقيق التصانيف لبقاء الخلفين - أي الكتب والأولاد - نائبين عني بعد التلف، وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد.

ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال، ثم لو حصل فرّق جَمْع الهمة...

وكل ذلك جمع بين أضداد... فواقلقي من طلب قيام الليل وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف... وواأسفي على ما يفوتني من المناجاة بالخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم، ويا كدر الورع مع طلب ما لابد منه لعائلة، غير أني قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي، وإن بلغ همي مراده، وإلا فنية المؤمن خير من عمله» اهـ (صيد الخاطر 216).

فالمطلوب من الداعي تقديم الأهم على المهم من العلوم والأعمال كما قال ابن القيم: «إن أفضل العبادات: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل الأعمال وقت الجهاد هو الجهاد وإن أدى الأمر إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل من ترك إتمام الفريضة، وأفضل الأعمال إذا حضر الضيف القيام بحقه ولو اشتغل به عن الورد المستحب وأداء حق الأهل والزوجة، وأفضل الأعمال وقت السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والذكر والاستغفار والدعاء، وأفضل الأعمال إذا جاء سائل يطلب العلم الإقبال على تعليمه والاشتغال به، وأفضل الأعمال وقت الأذان ترك ما هو فيه من ورد والاشتغال بإجابة المؤذن، وأفضل الأعمال وقت الصلوات المفروضة الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت.

وأفضل الأعمال وقت الضرورات المساعدة بالجاه أو البدن أو المال والاشتغال بمساعدة المحتاج، وهكذا فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.

وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف التي قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عما تعلق به من العبادة رأى نفسه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله تعالى على وجه واحد، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره بل غرضه تتبع مرضاة الله أين كانت، فلا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه حتى ينتهي سيره» اهـ.

كذلك على الداعية أن يحقق التكامل بين المثالية والواقعية:

المثالية:

فالدين يحرص على أن يبلغ الإنسان الكمال المقدر له، بأن تكون تصرفاته كلها وفق المنهج الرباني، وهذا يعتمد على أمرين:

الأول: الاعتدال: وهو عدم الإفراط أو التفريط.

الثاني: الشمول: فالدين يريد من المسلم أن يبلغ الكمال باتزان وتناسق في جميع الشؤون؛ ولهذا كان الصحابة أسوة في كل المجالات دون فرق.

الواقعية:

فالدين يقدر طبيعة البشر؛ ولهذا وضع حدا أدنى للكمال لا يجوز الهبوط عنه؛ لأنه أقل ما يقبل من المسلم وهو فعل الواجبات وترك المحرمات، وأما ما زاد على ذلك فهو مندوب لا واجب مراعاة لأحوال المكلفين، وشرع الرخص عند المشاق والحرج تيسيرا على العباد.

2 - عند تعارض المصالح والمفاسد:

قال شيخ الإسلام: «قاعدة الشريعة تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما»، وقال: «فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين؛ فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا».

وقال: «تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، و إلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات جميعا ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع من قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع».

دليل هذه القاعدة:

1- قوله عز وجل: {والفتنة أشد من القتل} وقوله: {والفتنة أكبر من القتل}، فقتل النفوس وإن كان فيه شر وفساد، ففي فتنة الكفار وظهورهم على أهل الحق من الشر والفساد ما هو أكبر منه فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.

2- قصة الخضر مع أصحاب السفينة حين نزع لوحا منها؛ لأن بقاء السفينة معيبة خير من فواتها وهي سليمة.

3- حديث الأعرابي الذي بال في المسجد حيث تركه النبي [ حتى فرغ لئلا يوسع دائرة الفساد.

4- تركه [ قتل المنافقين مع استحقاق بعضهم لذلك؛ دفعا لمفسدة إعراض الناس عن الدين.

ما ينبني على هذه القاعدة:

إذا تزاحمت المصالح ولم يمكن تحصيلها جميعا، أو تزاحمت المفاسد ولم يمكن دفعها جميعا، فعلى المكلف أن يقدم أعلى المصلحتين ويدفع أعظم المفسدتين، قال شيخ الإسلام: «المؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة؛ ليقدم ما هو أكثر خيرا وأقل شرا على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما؛ فإن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح».

1 - إذا كانت إحدى المصلحتين واجبة والأخرى مندوبة قدمت الواجبة:

قال شيخ الإسلام: «سائر ما يتزاحم من الواجبات والمستحبات، فإنها جميعها محبوبة لله، وعند التزاحم يقدم أحبها إلى الله، والتقرب بالفرائض أحب إليه من التقرب إليه بالنوافل، وبعض الواجبات والمستحبات أحب إليه من بعض».

قال ابن الجوزي: «وقد لبّس إبليس على جماعة من المتعبدين، فأكثروا من صلاة الليل وفيهم من يسهره كله ويفرح بقيـام الليـل وصلاة الضحى أكثر مما يفرح بأداء الفرائض، ثم يقع قبيل الفجر فتفوته الفريضة، أو يقوم فيتهيأ لها فتفوته الجماعة أو يصبح كسلان فلا يقدر على الكسب لعائلته».

2 - لو كانت المصلحتان واجبتين قدم أوجبهما:

فتقدم طاعة الله عز وجل على طاعة الوالدين والزوج، وتقدم الفريضة على النذر ونفقة الزوجات على الأقارب، ونفقة الأم على الأب.

3 - لو كانت المصلحتان مستحبتين قدم أفضلهما:

تقدم الراتبة على النفل المطلق، وما فيه نفع متعدٍ على ما نفعه قاصر كالتعليم وعيادة المريض على النافلة والذكر.

4 - لو كانت إحدى المفسدتين حراما والأخرى مكروهة قدم المكروهة على الحرام:

فيقدم الأكل من المشتبه على الحرام المحض.

5 - إن كانت المفسدتان محرمتين قدم أخفهما تحريما:

قال شيخ الإسلام: «إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمي ذلك: ترك واجب، وسمي هذا: فعل محرم - باعتبار الإطلاق - لم يضر، ويقال في هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم».

فلو اضطر إلى أكل طعام ووجد ميتة أو صيد الحرم قدّم صيد الحرم؛ لأن حرمته عارضة وأما الميتة فحرمتها أصلية.

الصبر على جور الأمراء الظلمة على ما فيه من مفسدة إلا أنه مقدم على الخروج عليهم؛ لما في ذلك من المفاسد العظيمة التي تمس كثيرا من المسلمين.

تولي الرجل الصالح الولاية وإن كان فيها ظلم لأجل تخفيف الظلم، مقدم على تركها لغير الصالحين لأن تركها أعظم فسادا وضررا.

وقال شيخ الإسلام: «فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال الكفار الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون».


مــنـــقول

مجـــلة الفرقان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق