الاثنين، 31 مايو 2010

العافية لا يعدلها شيء.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
العافية لا يَعْدِلُها شيء

منذ فترة ليست بالقصيرة والخواطر تتواردني أن أكتب حول قول من لا ينطق عن
الهوى صلى الله عليه وسلم : سلوا الله العافية .
وقوله عليه الصلاة والسلام : أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية . رواه البخاري ومسلم .(1)
بل عـدّ النبي عليه الصلاة والسلام العافية أفضل ما أُعطِيَ العبد ،
فقال : سلوا الله العافية فإنه لم يعط عبد شيئا أفضل من العافية . رواه الإمام أحمد وغيره .(2)
وكُنت أقف حيناً مُتأمِّلاً ، وأحياناً مُعتبِراً ، وحينا ثالثاً مُتسائلاً :
لماذا العافية وحدها ؟
وأين تكون العافية ؟
العافية .. عافية في الجسد .. وعافية في الولد .. وعافية في المال .. وفوق ذلك كلّه : العافية في الدِّين .
عافية الجسد .. وأنت تمشي على الأرض ولك وئيد ! وصوت شديد !
بَـزَقَ النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في كَـفِّـه فوضع عليها إصبعه ، ثم قال :
قال الله : ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟
حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ ، حتى إذا بلغت التراقي
قلتَ : أتصدق ! وأنّى أوَان الصَّدَقـة . رواه الإمام أحمد .(3)
عافية الجسد .. وأنت تنظر للبعيد
عافية الجسد .. وأنت تسمع للهمس
عافية الجسد .. وأنت تنام ملء عينيك
عافية الجسد .. وأنت تقوم وتقعد
عافية الجسد .. وأنت تتنفّس
عافية الجسد وأنت تنطق وتتكلّم وتُعبِّر عما تُريد
هنا .. تذكّرت موقفين :
أما الأول فهو لشيخ كفيف .. دُعِي إلى تخريج حَفَظة لكتاب الله .. فألقى كلمته ، ثم قال كلِمة ..
قال : ما تمنّيت أني أُبصِر إلا مرتين :
مرّة حينما سمعت قول الله تبارك وتعالى :
( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) لنظُر إليها نَظَر اعتبار ..
وهذه مرّة ثانية لأرى هؤلاء الحَفَظَة ..
يقول مُحدِّثي وقد حضر المشهد : لقد أبكى الجميع ..
هل تأملت هذا المشهد لرجل أعمى يتمنّى نعمة البصر لينظر فيها في موقفين فقط ؟
وأما الموقف الثاني : فهو لشاب أصمّ أبكم .. خَرَج يوماً مع بعض أصحابه ،
وكان منهم من يُتقِن لُغة الإشارة فيُترجم له ..
وفي الطريق مرُّوا بمجموعة من الشباب اجتمعوا على لهو وغناء وطرب ..
وقف الشباب بِصُحبة الأصمّ .. ترجَّلُوا من سيارتهم .. استأذنوا ثم جَلَسوا ..
تكلّموا .. تحدّثوا .. ذكّروا .. وعَظُوا .. انتهى الكلام .. همُّوا بالانصراف ..
أشار إليهم الأصمّ أن انتظروا قليلاً .. أشار إلى صاحبه المترجم أن يُترجم ..
تحدّث الأصمّ بلغة الإشارة .. ثم تَرجَم صاحبه ..
لقد قال لهم : أتمنّى أن لي لساناً ينطق .. لأذْكُر الله به ..
لقد وَقَعتْ كلماته على قلوب الجالسين ..
وأثّرت فيهم حتى لامَسَتْ شِغاف قلوبهم ..
رغم أنه لم يتكلّم ..
ومع أنه لم ينطق ..
إلا أن كلماته كان لها وقعها على نفوس الحاضرين .
أما عافية الولد .. ففي صلاح قلبِه وقالبه
وفي استقامته وهدايته ..
وفي أن تُمتّع به ..
حتى إذا شبّ وترعرع تمنّيت أن تَدْفَع عنه بالراحتين وباليَدِ ..
كما قال أبو الحسن التهامي في ابنه :
لو كنتَ تُمنَع خـاض دونك فتية *** مِنّـا بحار عوامل وشِفَارِ
فَدَحَوا فُويق الأرض أرضاً من دَم *** ثم انثنوا فَبَنَوا سَمَاء غُبارِ
فإذا نَـزَل القضاء ضاق الفضاء ..
وأما العافية في المال ففي بركته .. وفي نمائه .. وفي أن يكون مصدره حلالاً ، ومصرفه حلالاً ..
وأن يُحفَظ من كل آفـة ..
وأما العافية التي هي فوق كل عافية .. فعافية الدِّين ..
العافية في الإيمان .
العافية في الثبات على دين الله عزّ وجلّ .
العافية في اليقين .
العافية في السلامة من الوسواس .
العافية في القلب من كل شُبهة وشهوة ، فيكون كالمرآة الصقيلة لا يضرّها ما مرّ على ظاهرها .
العافية في العلم والخشية .
لذا كان يُقال : من عُوفِي فليحمد الله .
تواردت هذه المعاني في خاطري حينما دَخَلت قسم الإسعاف والطوارئ بأحد المستشفيات
فهذا يئنّ .. وذاك يصرخ من شِدّة الألـم
وثالث في غيبوبة
ورابع قد شُجّ وجهه
وخامس ينـزف جُرحـه
فعلمت عِلم يقين .. أن العافية والسلامة لا يَعدِلهما شيء ..
فاللهم لك الحمد على العافية ..
ولك الحمد على كل نعمة أنعمتَ بها علينا في قديم أو حديث ، أو خاصة أو عامة ، أو سرٍّ أو علانية ..
اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرِّضـا ..
لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن ،
ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ..
لك الحمد على العافية .. ونسألك العافية في الدنيا والآخرة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه حين يمسي وحين يصبح :
"اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ،
اللهم استر عوراتي ، وآمن روعاتي ، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي ومن يميني وعن شمالي ومن فوقي ،
وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي" . رواه الإمام أحمد وابو داود وابن ماجه . (4)

منقول
كتبه الشيخ/ عبد الرحمن السحيم حفظه الله
منتدى الإرشاد للفتاوى الشرعية

-----------------------------------------------------------------------
(
1) أخرجه البخاري / الجامع الصحيح / كتاب الجهاد والسير /باب لا تمنوا لقاء العدو / حديث رقم 2801
(2) أخرج الترمذي / حققه الألباني / صحيح الترمذي / كتاب الدعوات / باب / حديث رقم 3558 / حسن صحيح .
(3) أخرجه السيوطي / حققه الألباني / صحيح الجامع /حديث رقم: 8144/صحيح.
(4) أخرجه أبو داود / حققه الألباني / صحيح أبي داود / كتاب الأدب / باب ما يقول إذا أصبح / حديث رقم 5074

تابع مفسدات القلب ...فضول المخالطة


تابع مفسدات القلب - فضول المخالطة
معنى الفضول :-
فإن الفضول جمع فضل، والفضل في اللغة: المزية... والزيادة من كل شيء.. والبقية من الشيء لا يحتاج لها.. قال ابن منظور في اللسان: وسمي حلف الفضول تشبيها له بحلف قام قديماً بمكة على يد رجال من جرهم كلهم يسمى الفضل.. فقيل له: حلف الفضول جمعاً لهؤلاء، فكما يقال: سعد وسعود، يقال: فضل وفضول.
والفضول غلب استعماله على ما لا خير فيه حتى صار بالغلبة كالعلم لهذا المعنى، والفضولي: هو من يشتغل بما لا يعنيه، نسبة له إلى الزيادة عن الحاجة أو البقية من الشيء... وهو عند أهل العلم من يتصرف في حق الغير بلا إذن شرعي، لكون تصرفه صادراً من غير ملك ولا وكالة ولا ولاية. انظر لسان العرب والموسوعة الفقهية.
(1)
معنى المخالطة:-
المخالطة :- يعني الخلاط بين شيئين، فقد تطلق على الشركة بين الشريكين في مالهما، وإذا أريد بها المعانقة فالمراد أن المتعانقين اختلط أحدهما بالآخر والتصق به، قال صاحب القاموس: خالطه مخالطة: مازجه.. والخليط المشارك وخالطه الداء خامره
(2)
فضول المخالطة
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه بدائع الفوائد – المجلد الثالث .
إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة وكم زرعت من عداوة وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر .

أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر وهم العلماء بالله تعالى وأمره ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله .

القسم الثاني: من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من

القسم الثالث : وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربا عليك فإذا فارقك سكن الألم ومنهم من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض .
وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا .


القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم فإن اتفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} فيجعلون البدعة سنة والسنة بدعة والمعروف منكرا والمنكر معروفا إن جردت التوحيد بينهم قالوا تنقصت جناب الأولياء والصالحين وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين وإن وصفت الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا أنت من المشبهين وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا: أنت من المفتنين وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من أهل البدع المضلين وإن انقطعت إلى الله تعالى وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا أنت من المبلسين وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم فأنت عند الله تعالى من الخاسرين وعندهم من المنافقين فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم وأن لا تشتغل بإعتابهم ولا باستعتابهم ولا تبالي بذمهم ولا بغضبهم فإن عين كمالك كما قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني فاضل .
(3)
يتبع
إن شاء الله
~~~**~~~**~~~**~~~**~~~**~~~
نكمل بحول من الله وقوة
ومتى نعتزل الناس ومتى نخالط ؟
العزلة في زمان الفتن

~~~~~~~
في الحديث الذي رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه منها ( 7088 ) كتاب الفتن ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَن ) . وروى مسلم في صحيحه نحوه ( 1888 ) عن أبي سعيد الخدري أيضاً رضي الله عنه الله عنه أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ. قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ ) .
قوله : (شَعَفَ الْجِبَالِ ) أي : رؤوس الجبال . وَأَمَّا ( الشِّعْب ) : فَهُوَ مَا انْفَرج بَيْن جَبَلَيْنِ . قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم ( 13/34) : وَلَيْسَ الْمُرَاد نَفْس الشِّعْب خُصُوصًا ; بَلْ الْمُرَاد الانْفِرَاد وَالاعْتِزَال , وَذَكَرَ الشِّعْب مِثَالا لأَنَّهُ خَالٍ عَنْ النَّاس غَالِبًا اهـ.
والحديث يدل على أفضلية العزلة عن الناس وترك الاختلاط بهم ، في حال خوف المسلم على دينه لكثرة الفتن ، بحيث إنه لو خالط الناس لا يأمن على دينه من أن يرتد عنه ، أو يزيع عن الحق ، أو يقع في الشرك ، أو يترك مباني الإسلام وأركانه ، ونحو ذلك .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/42) : وَالْخَبَر دَالّ عَلَى فَضِيلَة الْعُزْلَة لِمَنْ خَافَ عَلَى دِينه اهـ .
وقال السندي في حاشيته على النسائي (8/124) : فِيهِ أَنَّهُ يَجُوز الْعُزْلَة بَلْ هِيَ أَفْضلُ أَيَّام الْفِتَن اهـ .
وفي الحديث الثاني المذكور آنفاً جعل النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم المؤمنَ المعتزلَ يتلو المجاهد في سبيل الله في الفضيلة ، قال الحافظ في الفتح- فتح الباري ( 6/6 ) : وَإِنَّمَا كَانَ الْمُؤْمِن الْمُعْتَزِل يَتْلُوهُ فِي الْفَضِيلَة لأَنَّ الَّذِي يُخَالِط النَّاس لا يَسْلَم مِنْ ارْتِكَاب الآثَام ، وَقَدْ تكون هذه الآثام أكثر من الحسنات التي يحصلها بسبب اختلاطه بالناس . ولكن تفضيل الاعتزال خاص بحالة وقوع الفتن اهـ بمعناه .(ا.هــ)
(4)

مثال للفتن التى يعتزل الناس فيها

~~~~~~~~~~~~
قال الشيخ ابن جبرين رحمه الله في الفتوى رقم 3260 بعنوان ( حكم العزلة عن الناس )
قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن يعني فتن الشهوات التي يُرقق بعضها بعضًا كالفتنة بالنساء، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء * وكقوله: اتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ** وهكذا ما ابتُلي به كثيرٌ من الميل إلى المُردان والافتتان بهم، وهكذا الفتنة بالدنيا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم الدنيا أن تُبسط عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوا فيها كما تنافسوا فيها، فتُهلككم كما أهلكتهم *** وهكذا ما انتشر بين الناس من الحقد والحسد والغيبة والنميمة والتناحر والتقاطع والتهاجر والتدابر الذي حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين الأقارب وحتى حصل هذا التقاطع من بعض الصالحين وحملة العلم فيعصي أحدهم أبويه ويمتنع عن خدمتهما ويُفضل أصدقاءه وزملاءه ويمتنع من إخبار أبويه بما يطلبانه مع أن مُخالطة أولئك الأصدقاء والزملاء تقدح في الدين ويقع بها الكثير في الآثام والمُحرمات، فنقول إذا كانت العُزلة يسلم بها الإنسان على دينه وعلى نفسه فإنها أفضل من المُخالطة التي يتساهل فيها الإنسان ويقع في المُحرمات ويرتكب الكبائر أو يُشاهد المعاصي والعُصاة ويُجالسهم ولا يستطيع أن يُنكر عليهم، ففي هذه الحال يُفضَّل الاعتزال والابتعاد عن هؤلاء العُصاة وأهل الفساد ليسلم على دينه وعرضه، ولا يرى المعاصي ولا أهلها،
(5)
وأما العزلة في غير وقت الفتن وخوف المسلم على دينه فاختلف العلماء في حكمها ، وذهب الجمهور إلى أن الاختلاط بالناس أفضل من العزلة واستدلوا على ذلك بعدة أدلة ، منها :
1- أن ذلك هو حال النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم ، والأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليهم ، وجماهير الصحابة رضي الله عنهم . شرح مسلم للنووي ( 13/34) .
2- ما رواه الترمذي ( 5207 ) وابن ماجه ( 4032 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) . صححه الألباني في صحيح الترمذي ( 2035 ) .
قال السندي في حاشيته على ابن ماجه ( 2 / 493 ) : الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُخَالِطَ الصَّابِرَ خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِل اهـ
وقال الصنعاني في سبل السلام ( 4/416 ) : فيه أفضلية من يخالط الناس مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم فإنه أفضل من الذي يعتزلهم ولا يصبر على المخالطة اهـ
3- ما رواه الترمذي (1574) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا . فَقَالَ : لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : ( لا تَفْعَلْ ، فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا . أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ ؟ اغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ . مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1348).
4- ما يحصله المسلم في المخالطة من المصالح الشرعية من مَنَافِع الاخْتِلاط بالناس كَالْقِيَامِ بِشَعَائِر الإِسْلام وَتَكْثِير سَوَاد الْمُسْلِمِينَ وَإِيصَال أَنْوَاع الْخَيْر إِلَيْهِمْ مِنْ إِعَانَة وَإِغَاثَة ونَحْو ذَلِكَ . وشُهُودِ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَالْجَنَائِز وَعِيَادَة الْمَرْضَى وَحِلَق الذِّكْر . . . وَغَيْر ذَلِكَ . فتح الباري ( 13/43 ) شرح مسلم للنووي (13/34). والله الموفق ، والله تعالى أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . (6)
~~~*~~~*~~~*~~~*~~~

(1)الشبكة الإسلاميةhttp://www.islamweb.net/ver2/Fatwa/

ShowFatwa.phplang=a&Id=93938&Option=Fatwa

(2)الإسلام سؤال وجواب للشيخ / محمد صالح المنجد

http://www.islamweb.net/ver2/fatwa/ShowFatwa.php?lang=A&Id=114749&Option=FatwaId
(3) http://www.ibnalqayem.com/life/227-91.htm موقع ابن القيم رحمه الله

(4) الإسلام سؤال وجواب فتوى

http://www.islam-qa.com/ar/ref/13835

(5) موقع الشيخ ابن جبرين رحمه الله

http://ibn-jebreen.com/ftawa.php?view=vmasal&subid=3260&parent=786
* (أخرجه ابن ماجة / وحققه الألباني/ صحيح سنن ابن ماجة / كتاب الفتن / باب فتنة النساء/ حديث رقم 3998 / صحيح )
** (أخرجه مسلم / المسند الصحيح / كتاب ‏الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار‏/ باب ‏أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان‏ / حديث رقم 4925 )
*** ( أخرجه البخاري / الجامع الصحيح / كتاب الرقاق / باب ‏ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها‏ / حديث رقم 5945)
(6) الإسلام سؤال وجواب فتوى للشيخ محمد صالح المنجد

حكم التبرك بالصالحين

العقيدة الإسلامية الصحيحة في التبرك
بالعلماء والصالحين وأثارهم
-----------------------
من أجوبة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز من كتاب فتاوى مهمة تتعلق بالعقيدة:
السؤال :-
هناك من يرى جواز التبرك بالعلماء والصالحين وآثارهم مستدلا بما ثبت من تبرك الصحابة- رضي الله عنهم- بالنبي، صلى الله عليه وسلم، فما حكم ذلك؟ ثم أليس فيه تشبيه لغير النبي، صلى الله عليه وسلم، بالنبي، صلى الله عليه وسلم؟ وهل يمكن التبرك بالنبي، صلى الله عليه وسلم، بعد وفاته؟ وما حكم التوسل إلى الله- تعالى- ببركة النبي، صلى الله عليه وسلم؟
الجواب :-

لا يجوز التبرك بأحد غير النبي، صلى الله عليه وسلم، لا بوضوئه، ولا بشعره، ولا بعرقه، ولا بشيء من جسده؟ بل هذا كله خاص بالنبي، صلى الله عليه وسلم، لما جعل الله في جسده وما مسه من الخير والبركة.

ولهذا لم يتبرك الصحابة- رضي الله عنهم- بأحد منهم، لا في حياته ولا بعد وفاته، صلى الله عليه وسلم، لا مع الخلفاء الراشدين ولا مع غيرهم. فدل ذلك على أنهم قد عرفوا أن ذلك خاص بالنبي، صلى الله عليه وسلم، دون غيره، ولأن ذلك وسيلة إلى الشرك وعبادة غير الله سبحانه.. وهكذا لا يجوز التوسل إلى الله- سبحانه- بجاه النبي، صلى الله عليه وسلم، أو ذاته أو صفته أو بركته لعدم الدليل على ذلك؟ ولأن ذلك من وسائل الشرك به والغلو فيه عليه الصلاة والسلام، ولأن ذلك أيضا لم يفعله أصحابه- رضي الله عنهم- ولو كان خيرا لسبقونا إليه؟ ولأن ذلك خلاف الأدلة الشرعية، فقد قال الله - عز وجل-: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) (1). ولم يأمر بدعائه- سبحانه- بجاه أحد أو حق أحد أو بركة أحد.

ويلحق بأسمائه- سبحانه- التوسل بصفاته كعزته، ورحمته، وكلامه وغير ذلك.
ومن ذلك ما جاء في الأحاديث الصحيحة من التعوذ بكلمات الله التامات، والتعوذ بعزة الله وقدرته. ويلحق بذلك أيضا التوسل بمحبة الله- سبحانه- ومحبة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وبالإيمان بالله وبرسوله، والتوسل بالأعمال الصالحات، كما في قصة أصحاب الغار الذين آواهم المبيت والمطر إلى غار فدخلوا فيه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم باب الغار، ولم يستطيعوا دفعها، فتذاكروا بينهم في وسيلة الخلاص منها، واتفقوا بينهم على أنه لن ينجيهم منها إلا أن يدعوا الله بصالح أعمالهم، فتوسل أحدهم إلى الله- سبحانه- في ذلك ببر والديه، فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه. ثم توسل الثاني بعفته عن الزنا بعد القدرة عليه، فانفرجت الصخرة بعض الشيء لكنهم لا يستطيعون الخروج من ذلك. ثم توسل الثالث بأداء الأمانة فانفرجت الصخرة وخرجوا.
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من أخبار من قبلنا لما فيه من العظة لنا والتذكير.

وقد صرح العلماء- رحمهم الله- بما ذكرته في هذا الجواب.. كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، والشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد وغيرهم. وأما حديث توسل الأعمى بالنبي، صلى الله عليه وسلم، في حياته، صلى الله عليه وسلم، فشفع فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، ودعا له فرد الله عليه بصره، فهذا توسل بدعاء النبي وشفاعته وليس ذلك بجاهه وحقه، كما هو واضح في الحديث. وكما يتشفع الناس به يوم القيامة في القضاء بينهم. وكما يتشفع به يوم القيامة أهل الجنة في دخولهم الجنة. وكل هذا توسل به في حياته الدنيوية والأخروية. وهو توسل بدعائه وشفاعته لا بذاته وحقه كما صرح بذلك أهل العلم، ومنهم من ذكرنا آنفا.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأعراف، الآية: 185.

السبت، 29 مايو 2010

(حديث) انظروا لمن هو أسفل منكم ولاتنظروا إلى من هوفوقكم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شــــرح حـــديث

انظروا إلى من هو أسفل منكم ،
ولا تنظروا إلى من هو فوقكم
قال مسلم في صحيحه :-
و حَدَّثَنِي ‏ ‏زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ‏ ، قال :‏حَدَّثَنَا ‏ ‏جَرِيرٌ ‏ ‏ح ‏ قال : ‏وحَدَّثَنَا ‏ ‏أَبُو كُرَيْبٍ ‏
قال : ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏أَبُو مُعَاوِيَةَ ‏ ‏ح ‏ ‏قال و حَدَّثَنَا ‏ ‏أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ‏ ‏وَاللَّفْظُ لَهُ ‏،
قال : ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏أَبُو مُعَاوِيَةَ ‏ ‏وَوَكِيعٌ ‏ ، ‏عَنْ ‏ ‏الْأَعْمَشِ ، ‏ ‏عَنْ ‏ ‏أَبِي صَالِحٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏ ‏قَالَ ‏ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏:-

" ‏انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ ‏ ‏أَجْدَرُ ‏ ‏أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ " (1)
يالها من وصية نافعة ، وكلمة شافية وافية ، فهذا يدل على الحث على شكر الله بالاعتراف بنعمه ، والتحدث بها ، والاستعانة بها على طاعة المنعم ، وفعل جميع الأسباب المعينة على الشكر . فإن الشكر لله هو رأس العبادة ، وأصل الخير ، وأوجبه على العباد ، فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة ، خاصة أو عامة إلا من الله . وهو الذي يأتي بالخير والحسنات ، ويدفع السوء والسيئات . فيستحق أن يبذل له العباد من الشكر ما تصل إليه قواهم ، وعلى العبد أن يسعى بكل وسيلة توصله وتعينه على الشكر .
قد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدواء العجيب ، والسبب القوي لشكر نعم الله . وهو أن يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه في العقل والنسب والمال وأصناف النعم . فمتى استدام هذا النظر اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه ، فإنه لا يزال يرى خلقاً كثيراً دونه بدرجات في هذه الأوصاف ، ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق ، وخلق وخلق ، فيحمد الله على ذلك حمداً كثيراً ، ويقول : الحمد لله الذي أنعم علي وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا .
ينظر إلى خلق كثير ممن سلبوا عقولهم ، فيحمد ربه على كمال العقل ، ويشاهد عالماً كثيراً ليس لهم قوت مدخر ،
ولا مساكن يأوون إليها ، وهو مطمئن في مسكنه ، موسع عليه رزقه .
ويرى خلقاً كثيراً قد ابتلوا بأنواع الأمراض ، وأصناف الأسقام وهو معافى من ذلك ، مسربل بالعافية . ويشاهد خلقاً كثيراً قد ابتلوا ببلاء أفظع من ذلك ، بانحراف الدين ، والوقوع في قاذورات المعاصي ، والله قد حفظه منها أو من كثير منها .
ويتأمل أناساً كثيرين قد استولى عليهم الهم ، وملكهم الحزن والوساوس ، وضيق الصدر ، ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء ، ومنة الله عليه براحة القلب ، حتى ربما كان فقيراً يفوق بهذه النعمة - نعمة القناعة وراحة القلب - كثيرا من الأغنياء .
ثم من ابتلي بشيء من هذه الأمور يجد عالماً كثيراً أعظم منه وأشد مصيبة ، فيحمد الله على وجود العافية
وعلى تخفيف البلاء ، فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظم منه .

فمن وفق للاهتداء بهذا الهدي الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل شكره في قوة ونمو ، ولم تزل نعم الله عليه تترى وتتوالى . ومن عكس القضية فارتفع نظره وصار ينظر إلى من هو فوقه في العافية والمال والرزق وتوابع ذلك ، فإنه لا بد أن يزدري نعمة الله ، ويفقد شكره . ومتى فقد الشكر ترحلت عنه النعم ، وتسابقت إليه النقم ، وامتحن بالغم الملازم ، والحزن الدائم ، والتسخط لما هو فيه من الخير ، وعدم الرضى بالله ربا ومدبرا . وذلك ضرر في الدين والدنيا وخسران مبين .

واعلم أن من تفكر في كثرة نعم الله ، وتفطن لآلاء الله الظاهرة والباطنة ، وأنه لا وسيلة إليها إلا محض فضل الله وإحسانه ، وأن جنساً من نعم الله لا يقدر العبد على إحصائه وتعداده ، فضلا عن جميع الأجناس ، فضلا عن شكرها ، فإنه يضطر إلى الاعتراف التام بالنعم ، وكثرة الثناء على الله ، ويستحي من ربه أن يستعين بشيء من نعمه على ما لا يحبه ويرضاه ، وأوجب له الحياء من ربه الذي هو من أفضل شعب الإيمان ، فاستحيا من ربه أن يراه حيث نهاه ، أو يفقده حيث أمره . (2)

(1) أخرجه مسلم / المسند الصحيح / كتاب الزهد والرقائق / باب / حديث رقم 5264 .
(2) منقول / كتاب بهجة قلوب الأبرار شرح منتقى الأخبار / الحديث
التاسع عشر / للشيخ :عبد الرحمن بن ناصر السعدي، رحمه الله

الجمعة، 28 مايو 2010

حدود وضوابط لباس المرأة أمام المحارم


* عورة المرأة *
الصحيح أن عورة المرأة مع المرأة كعورة المرأة مع محارمها؛ فيجوز أن تُبدي للنساء مواضع الزينة ومواضع الوضوء لمحارمها ولبنات جنسها.
أما التهتك في اللباس بحجة أن ذلك أمام النساء فليس من دين الله في شيء، وليس بصحيح أن عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل, أي من السرة إلى الركبة؛ فهذا الأمر ليس عليه أثارة من علم ولا رائحة من دليل فلم يدل عليه دليل صحيح ولا ضعيف، بل دلّت نصوص الكتاب والسنة على ما ذكرته أعلاه،
قال سبحانه وتعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور31]
ووجه الدلالة أن الله ذكر النساء بعد ذكر المحارم وقبل ذكر مُلك اليمين؛
فحُكم النساء مع النساء حُـكم ما ذُكِرَ قبلهن وما ذُكِرَ بعدهـنّ في الآية.
ولعلك تلحظ أن الله سبحانه وتعالى لم يذكر الأعمام والأخوال في هذه الآية، وليس معنى ذلك أنهم ليسوا من المحارم،
قال عكرمة والشعبي: "لم يذكر العم ولا الخال؛ لأنهما ينعتان لأبنائهما، ولا تضع خمارها عند العم والخال فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره".
وهذه الآية حـدَّدَتْ مَنْ تُظهـر لهم الزينة، فللأجانب {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ

قال ابن مسعـود رضي الله عنه: "الزينـة زينتان: فالظاهـرة منهـا الثياب، وما خفي الخلخالان والقرطـان والسواران" رواها بن جرير في (التفسير)، والحاكم وصححه على شرط مسلم، والطبراني في (المعجم الكبير)، والطحاوي في (مشكل الآثار).
قال ابن جرير: "ولا يُـظهرن للناس الذين ليسوا لهن بمحرم زينتهن".
أما الزينـة المقصـودة في قوله تعـالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ}، فهذه يُوضِّحهـا علماء الإسلام.
قال البيهقي: "والزينـة التي تبديهـا لهـؤلاء الناس قرطاهـا وقلادتهـا وسواراها، فأما خلخالها ومعضدتهـا ونحرهـا وشعرهـا فلا تبديه إلا لزوجهـا. وروينا عـن مجاهـد أنه قـال: يعني به القرطين والسالفة والساعـدين والقدمين، وهـذا هو الأفضل ألاّ تبدي من زينتها الباطنة شيئا لغير زوجهـا إلا ما يظهر منها في مهنتها" اهـ.

وقوله (لهؤلاء الناس): أي المذكورين في الآية من المحارم ابتداءً بالبعل (الزوج) وانتهاءً بالطفل الذي لم يظهر على عورات النساء، ثم استثنى الزوج، والمعضدة ما يُلبس في العضد.

ويؤيد هذا قولـه صلى الله عليه وسلم: «المـرأة عورة» [رواه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح]، فلا يُستثنى من ذلك إلا ما استثناه الدليل.

وأما قول إن عـورة المـرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل فليس عليه أثارة من علم، ولا رائحة من دليل، ولو كان ضعيفـاً. إذاً فالصحيح أن عورة المرأة مع المرأة ليست كعورة الرجل مع الرجل، من السرة إلى الركبة، وإن قال به من قال، بل عورة المرأة مع المرأة أكثر من ذلك.

ويؤيّد ذلك أيضـا أن الأمَـة على النصف من الحُرّة في الحـدِّ؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [التساء: 25].
والأمَـة على النصف في العورة لما رواه أبو داود من حديث عمر و بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظـر إلى ما دون السرة وفوق الركبة» [وحسّنه الألباني وزاد نسبته للإمام أحمد].
وإذا كان ذلك في الأمَة التي هـي على النصف من الحـرة في الحدِّ والعورة وغيرها، فالحُـرّة لا شك أنها ضِعف الأمَة في الحـدِّ والعورة وغيرها مع المحـارم والنساء، قال البيهقي: "والصحيح أنها لا تبدي لسيِّدها بعدما زوّجها، ولا الحـرة لذوي محارمها إلا ما يَظهـر منها في حال المهنة، وبالله التوفيق".


وقال شيخ الإسـلام ابن تيمية: "والحجـاب مختص بالحرائر دون الإماء، كما كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه إن الحـرة تحتجب، والأمَـة تبرُز، وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمَة مختمـرة ضربها، وقال: أتتشبهين بالحـرائر!! أيْ لكـاع. فَيَظْهَر من الأمَة رأسها ويداها ووجهها وكذلك الأمَـة إذا كان يُخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابهـا وتحتجب، ووجب غض البصر عنهـا ومنهـا، وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء ولا ترك احتجابهن وإبداء زينتهن، ولكن القـرآن لم يأمرهـن بمـا أمر الحرائر فإذا كان في ظهـور الأمَة والنظر إليها فتنة وجب المنع من ذلك كما لو كانت في غير ذلك، وهكذا الرجل مع الرجال، والمرأة مع النساء: لـو كـان في المرأة فتنة للنساء، وفى الرجل فتنة للرجال لَكَانَ الأمر بالغض للناظر من بَصَرِهِ متوجِّها كما يتوجَّه إليه الأمر بِحِفْظِ فَرْجِه" انتهى كلامه -رحمه الله-.


وقول عمر هذا، قال عنه الألباني: "هذا ثابت من قول عمر رضي الله عنه".
وهذا الفعل من عمر رضي الله عنه من أقوى الأدلة على اختصاص الحرائر بالحجاب -الخمـار، وهو غطـاء الوجه- دون الإماء، وأن من كشفت وجهها فقد تشبّهت بالإمـاء!!


قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء".
وما أعظم ما تفتتن به النسـاء بعضهـن ببعض، خاصة الفتيات في هذا الزمن، فيما يُسمّى بالإعجاب نتيجة التزيّن والتساهل في اللباس ولو كان أمام النساء، والشرع قد جاء بتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وإعدامها.

مما يَدلّ على أنه لا يجـوز للمـرأة أن تُبدي شيئاً مِن جسدها أمـام النسـاء إلا ما تقدّم ذِكره من مواضع الزينة ومواضع الوضوء إنكار نساء الصحابة على من كُنّ يدخلن الحمامات العامة للاغتسال، وكان ذلك في أوساط النساء.

والحمام هو مكان الاغتسال الجماعي سواء للرجال مع بعضهم، أو للنساء مع بعضهن، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «الحمام حرام على نساء أمتي» [ رواه الحاكم، وصححه الألباني].

وقد دخلت نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها فقالت: "فلعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات؟!"، قلن: "نعم". قالت: "أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى» [قال الألباني إسناده صحيح على شرط الشيخين].
ولذا كان عمر رضي الله عنه يكتب إلى الآفاق: "لا تدخلن امرأة مسلمة الحمام إلا من سقم، وعلموا نساءكم سورة النور".


ومثل الحمامات: النوادي النسائية التي يُنادي بها أشباه الرجال فإن النساء تُمـارس فيها "الرياضة" وتنزع المرأة ثيابها من أجل السباحة، ومثلها المشاغل النسائية وما يدخل في حُـكمها.
فإذا كانت المرأة تُمنع من دخول الحمّام، ولو كان خاصاً بالنسـاء، وتُمنع من نـزع ثيابهـا ولو بحضرة النسـاء، كان من المتعيّن أن عـورة المرأة مع المرأة كعورة المـرأة مع محارمها، لا كعورة الرجل مع الرجل فلا تُبدي لمحـارمـها ونسـاءها إلا مواضع الـوضوء والزينة، وهي: الوجـه والـرأس والعنق واليدين إلى المرفقين والقدمين.
ثم لو افترضنا -جدلاً- أن عورة المرأة كعورة الرجل مع الرجل -لو افترضنا ذلك افتراضاً-... فأين ذهبت مكارم الأخلاق؟!... أليس هذا من خوارم المروءة؟!
إن عورة الرجل مع الرجل من السرة إلى الركبة، ومع ذلك لو خرج الرجل بهذا اللباس لم يكن آثما، إلا أنه مما يُذمّ ويدعو إلى التنقص؛ فإن الأطفال بل والمجانين لا يخرجون بمثل هذا اللباس!!

بل حتى الكفار الذين لا يُراعون دين ولا عادة لا يلبسون مثل هذا اللباس عند ذهابهم لأعمالهم أو اجتماعاتهم ونحو ذلك.
فلو كان لباس المرأة كذلك... فأين مكارم الأخلاق؟!
هذا بالإضافة إلى أنه تبيّن مما تقدّم من الأدلة أن عورة المرأة مع المرأة ليست كعورة الرجل مع الرجل.
إن نساء السلف حرصن على عدم لبس ما يشف أو يصف، ولو كُـنّ كباراً.
ولذا لما قَدِمَ المنذر بن الزبير من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوة من ثياب رقاق عتاق بعدما كف بصرُها. قال: "فلمستها بيدها، ثم قالت: أف! ردوا عليه كسوته". قال: فشق ذلك عليه، وقال: "يا أمه إنه لا يشف". قالت: "إنها إن لم تشف، فإنـها تصف"، فاشترى لها ثيابا مروية فقَبِلَتْها (رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى).

وبناء عليه فيُمنع من لبس الضيق والشفاف حتى في أوساط النساء وعند المحارم.
والله أعلم.

منقول
كتبه
(عبد الرحمن بن عبد الله السحيم)
الرياض – 1423 هـ
assuhaim@al-islam.com